كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَا يُعَارِضُ مَا تَقَدَّمَ هَذَا مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ وَسِيرَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ فِي التَّقَشُّفِ: فَإِنَّ هَذَا الْهَدْيَ الْقُرْآنِيَّ هُوَ أَصْلُ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا خَالَفَهُ فَلَهُ سَبَبٌ يَعْرِفُهُ الْوَاقِفُ عَلَى جُمْلَةِ سِيرَتِهِمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَا خَافُوا عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْفَسَادِ بِالتَّرَفِ وَالسَّرَفِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ ذَلِكَ الضِّيقِ إِلَى تِلْكَ السَّعَةِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا.
عَلَى أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى التَّقَشُّفِ وَالتَّقْتِيرِ وَالْغُلُوَّ فِي ذَلِكَ تَدَيُّنًا مَعْهُودٌ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ كَضِدِّهِ، وَالِاعْتِدَالُ وَالْقَصْدُ هُوَ الَّذِي خَاطَبَ بِهِ الشَّرْعُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. وَمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَكْلَ مَرَّتَيْنِ فِي الْيَوْمِ مِنَ الْإِسْرَافِ ضَعِيفٌ وَمُعَارَضٌ بِالصِّحَاحِ وَحَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ مَاجَهْ «إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ مَا اشْتَهَيْتَ» ضَعِيفٌ أَيْضًا وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَحِكْمَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَلَمْ يَكْبَحْ جُمُوحَهَا بِقُوَّةِ الْإِرَادَةِ عَنْ بَعْضِ شَهَوَاتِهَا، فَإِنَّهَا تَقُودُهُ إِلَى الْإِسْرَافِ وَإِلَى شُرُورٍ أُخْرَى؛ وَلِهَذَا شَرَعَ اللهُ الصِّيَامَ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ قَبْلَنَا. وَقَدْ مَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى الْغُلُوِّ وَشَرَعُوا فِيهِ بِتَرْكِ أَكْلِ اللَّحْمِ وَغَشَيَانِ النِّسَاءِ حَتَّى اسْتَأْذَنَ بَعْضُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخِصَاءِ فَأَدَّبَهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ تَفْصِيلًا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [5: 87] إِلَخِ الْآيَتَيْنِ وَبَيَّنَّا فِيهِ أَنَّ مَا عَنَى بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ بِنَقْلِهِ مِنْ أَخْبَارِ الزُّهْدِ فِي الطَّعَامِ كَالْغَزَالِيِّ فِي كِتَابِ كَسْرِ الشَّهْوَتَيْنِ فَأَكْثَرُهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَمِنْهُ الْمَوْضُوعُ وَالضَّعِيفُ وَأَقَلُّهُ الصَّحِيحُ، وَأَنَّ جُمْلَةَ سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّعَامِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ مِنْ خَشِنٍ وَمُسْتَلَذٍّ، لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْمُعْسَرِينَ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَلِلْمُوسَرِينَ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ مِنْهُمْ فِي عَهْدِهِ، وَقَدْ أُيْسِرُوا مِنْ بَعْدِهِ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ اللَّحْمُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهْتَمُّ بِالطَّعَامِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمَاءِ وَالشَّرَابِ، فَلَا يَشْرَبُ إِلَّا النَّظِيفَ الْعَذْبَ، وَيُحِبُّ الْبَارِدَ الْحُلْوَ، حَتَّى كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ مَسَافَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَكَانَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ يَلْبَسُ مَا كَانَ يَلْبَسُ قَوْمُهُ. وَلَبِسَ مِنْ خَشِنِ اللِّبَاسِ وَمَنْ أَجْوَدِ أَنْوَاعِهِ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ضَرُورَةٌ بَشَرِيَّةٌ حَيَوَانِيَّةٌ، وَلَكِنْ ضَلَّ فِيهَا فَرِيقَانِ مِنَ الْبَشَرِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ- فَرِيقُ الْبُخَلَاءِ وَالْغُلَاةِ فِي الدِّينِ، الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُسْتَلَذَّةِ النَّافِعَةِ بُخْلًا وَشُحًّا أَوْ يُحَرِّمُونَهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تَحْرِيمًا دَائِمًا أَوْ فِي أَيَّامٍ أَوْ أَشْهُرٍ مَخْصُوصَةٍ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَإِضْعَافِ الْجِسْمِ- وَفَرِيقُ الْمُتْرَفِينَ الْمُسْرِفِينَ فِي اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّذِينَ جَعَلُوا جُلَّ هَمِّهِمْ مِنْ حَيَاتِهِمُ التَّمَتُّعُ بِاللَّذَّاتِ، فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ كَمَا تَتَمَتَّعُ الْأَنْعَامُ بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْهَا فِي تَمَتُّعِهِمْ؛ لِأَنَّهَا تَقِفُ عِنْدَ حَاجَةِ فِطْرَتِهَا دُونَهُمْ فَلَا تَعْدُوا فِيهَا دَاعِيَةَ غَرِيزَتِهَا الَّتِي تَحْفَظُ بِهَا حَيَاتَهَا الْفَرْدِيَّةَ وَالنَّوْعِيَّةَ، وَأَمَّا الْمُتْرَفُونَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يُسْرِفُونَ فِي ذَلِكَ فَيَأْكُلُونَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْجُوعِ وَيَشْرَبُونَ عَلَى غَيْرِ ظَمَأٍ، وَيَتَجَاوَزُونَ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا يَتَجَاوَزُونَهُ فِي غَيْرِهِمَا وَيَسْتَعِينُونَ عَلَى ذَلِكَ بِالتَّوَابِلِ وَالْمُحَرِّضَاتِ لِلشَّهْوَةِ فَيُصَابُونَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ بِتَمَدُّدِ الْمَعِدَةِ، وَسُوءِ الْهَضْمِ وَفَسَادِ الْأَمْعَاءِ مِنَ التُّخْمَةِ، وَكَثْرَةِ الْفَضَلَاتِ فِي الْجِسْمِ الَّتِي تُحْدِثُ تَصَلُّبَ الشَّرَايِينِ الْمُعَجِّلَ بِالْهَرَمِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُمْ فِي شَهْوَةِ دَاعِيَةِ النَّسْلِ الَّتِي بَيَّنَّا ضَرَرَ الِانْهِمَاكِ وَالْإِسْرَافِ فِيهَا قَرِيبًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ سَتْرِ السَّوْءَتَيْنِ حَتَّى فِيمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى؛ لِأَجْلِ هَذَا قَيَّدَ الْأَمْرَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ كَمَا قَيَّدَهُ فِي زِينَةِ اللِّبَاسِ.
هَذَا وَإِنَّ الِاقْتِصَادَ فِي الْمَعِيشَةِ قَدْ وُضِعَتْ لَهُ قَوَاعِدُ وَأُصُولٌ، فُرِّعَتْ مِنْهَا مَسَائِلُ وَفُرُوعٌ فَيَحْسُنُ الِاسْتِنَارَةُ بِهَا وَبِعِلْمِ تَدْبِيرِ الْمَنْزِلِ عَلَى اجْتِنَابِ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالْبُخْلِ وَالتَّقْتِيرِ: وَاتِّبَاعِ مَا حَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} [4: 5].
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}: حَرَّمَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا زِينَةَ اللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ تَعَبُّدًا وَقُرْبَةً، وَحَرَّمَ بَعْضُهُمْ أَكْلَ بَعْضِ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ كَذَلِكَ، وَحَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَحَرَّمَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ كَذَلِكَ. فَجَاءَ دِينُ الْفِطْرَةِ الْجَامِعُ بَيْنَ مَصَالِحِ الْبَشَرِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. الْمُطَهِّرُ الْمُرَبِّي لِأَرْوَاحِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ- يُنْكِرُ هَذَا التَّحَكُّمَ وَالظُّلْمَ لِلنَّفْسِ. فَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ} إِنْكَارِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيَاطِينِ. لَا مِمَّا أَوْحَاهُ تَعَالَى إِلَى مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، أَيْ لَمْ يُحَرِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ سُبْحَانَهُ حَقَّ التَّبْلِيغِ عَنْهُ لِغَيْرِهِمْ، وَإِضَافَةُ الزِّينَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يُؤْذِنُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَالْمِنَّةِ بِهَا. وَإِخْرَاجُهَا لِلنَّاسِ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ مَوَادِّهَا لَهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ طَرَائِقَ صُنْعِهَا، بِمَا أَوْدَعَ فِي فَطْرِهِمْ مِنْ حُبِّهَا. وَفِي عُقُولِهِمْ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِبْدَاعِ فِيهَا لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ لِلْمُنْعِمِ شُكْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ بِسُنَنِهِ وَآيَاتِهِ عِلْمًا {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} هِيَ الْمُسْتَلَذَّاتُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا حَلَالًا يُؤْخَذُ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْإِسْرَافِ فِيهَا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ [2: 168] وَالْمَائِدَةِ (5: 90- 91).
خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْبَشَرَ مُسْتَعِدِّينَ لِإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوْدَعَ فِي غَرَائِزِهِمْ مَيْلًا إِلَى الْعِلْمِ وَالْبَحْثِ وَكَشْفِ الْمَجْهُولَاتِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَفِيَّاتِ، لَا حَدَّ لَهُ يَقِفُ عِنْدَهُ. وَحُبًّا لِلشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالزِّينَةِ الصُّورِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، لَا حَدَّ لَهُ أَيْضًا. فَانْدَفَعُوا بِهَذِهِ الْغَرَائِزِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُشَارِكُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ كَأَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَلَا فِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ، فَلَمْ يَدَعُوا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِحَوَاسِّهِمْ إِلَّا عَنَوْا بِالْبَحْثِ فِيهِ، وَلَا شَيْئًا عَرَفُوهُ بِعُقُولِهِمْ إِلَّا بَحَثُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَحْثُهُمْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَلَا لِغَرَضٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لِأَغْرَاضٍ شَتَّى لَمْ تَنْتَهِ وَلَنْ تَنْتَهِيَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُقْضَى عَلَيْهَا بِالنِّهَايَةِ وَكَأَنَّمَا هُمْ مَخْلُوقُونَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا حَدَّ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ غَرَائِزُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَدٌّ.
وَلَقَدْ كَانَتْ غَرِيزَةُ حُبِّ الزِّينَةِ وَغَرِيزَةُ حُبِّ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ سَبَبًا لِتَوَسُّعِ الْبَشَرِ فِي أَعْمَالِ الْفِلَاحَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَمَا يُرَقِّيهَا مِنْ فُنُونِ الصِّنَاعَةِ وَسَائِرِ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ وَإِظْهَارِ عَجَائِبِ عِلْمِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي الْعَالَمِ وَرَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ بِالْخَلْقِ. وَلَوْ وَقَفَ الْإِنْسَانُ عِنْدَ حَدِّ مَا تَنْبُتُ لَهُ الْأَرْضُ مِنَ الْغِذَاءِ لِحِفْظِ حَيَاةِ أَفْرَادِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَبَقَاءِ حَيَاتِهِ النَّوْعِيَّةِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، لَمَا وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْأَعْمَالِ. وَهَلْ كَانَ مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ خَلْقِهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَكْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا عَنْهَا إِلَّا بِدَافِعِ غَرِيزَةِ كَشْفِ الْمَجْهُولِ، وَالْحِرْصِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَمْنُوعِ؟ وَهَلْ كَانَ مَا ذُكِرَ مِنْ حِرْمَانِهِمَا مِنَ الرَّاحَةِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّتِي يَعِيشَانِ فِيهَا رَغَدًا بِغَيْرِ عَمَلٍ، إِلَّا لِبَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي جَعْلِ هَذَا النَّوْعِ عَالِمًا صِنَاعِيًّا تَدْفَعُهُ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَمَلِ وَيَدْفَعُهُ الْعَمَلُ إِلَى الْعِلْمِ، وَيَدْفَعُهُ حُبُّ الرَّاحَةِ إِلَى التَّعَبِ، وَيُثْمِرُ لَهُ التَّعَبُ الرَّاحَةَ؟
وَقَدْ عُرِفَ مِنِ اخْتِبَارِ قَبَائِلِ هَذَا النَّوْعِ وَشُعُوبِهِ فِي حَالَيْ بَدَاوَتِهِ وَحَضَارَتِهِ، أَنَّهُ يَتْعَبُ وَيَبْذُلُ فِي سَبِيلِ الزِّينَةِ فَوْقَ مَا يَتْعَبُ وَيَبْذُلُ فِي سَبِيلِ ضَرُورِيَّاتِ الْمَعِيشَةِ، وَكَثِيرًا مَا يُفَضِّلُهَا عَلَيْهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَالْمَرْءُ قَدْ يُضَيِّقُ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ لِيُوَفِّرَ لِنَفْسِهِ ثَمَنًا لِثَوْبٍ فَاخِرٍ يَتَزَيَّنُ بِهِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَجَامِعِ، وَمَاذَا تَقُولُ فِي الْمَرْأَةِ وَهِيَ أَشَدُّ حُبًّا لِلزِّينَةِ مِنَ الرَّجُلِ، وَقَدْ تُؤْثِرُهَا عَلَى جَمِيعِ اللَّذَّاتِ الْأُخْرَى؟ وَإِنَّ تَوَسُّعَ الْأَغْنِيَاءِ فِي أَنْوَاعِ الزِّينَةِ الَّتِي يُنَفِّسُونَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، هُوَ الَّذِي وَسَّعَ الطُّرُقَ لِاسْتِفَادَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ فَضْلِ أَمْوَالِ أُولَئِكَ، فَإِنَّ الْغَوَّاصِينَ الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ اللُّؤْلُؤَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِحَارِ، وَعُمَّالَ الصِّيَاغَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالتَّطْرِيزِ وَالْبِنَاءِ وَالنَّقْشِ وَالتَّصْوِيرِ وَسَائِرِ الزِّينَاتِ، كُلَّهُمْ أَوْ جُلَّهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ يَتَزَيَّنُ الْأَغْنِيَاءُ بِمَا يَعْمَلُونَ لَهُمْ وَهُمْ مِنْهُ مَحْرُومُونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَا لابد لَهُمْ مِنْهُ مِنْ مَعِيشَةٍ وَزِينَةِ تَلِيقُ بِهِمْ إِلَّا بِسَبَبِ تَنَافُسِ الْأَغْنِيَاءِ فِيهِ.
فَحُبُّ الزِّينَةِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْعُمْرَانِ، وَإِظْهَارُ اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ لِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَكْوَانِ، فَهِيَ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ فِي نَفْسِهَا، إِنَّمَا يُذَمُّ الْإِسْرَافُ فِيهَا وَالْغَفْلَةُ عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا. وَمِنَ الْإِسْرَافِ فِيهَا جَعْلُهَا شَاغِلَةً عَنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ سَائِرِ مَعَالِي الْأُمُورِ وَالْكِمَالَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، مِنْ عِلْمِيَّةٍ أَوْ عَمَلِيَّةٍ أَوِ اجْتِمَاعِيَّةٍ، دُنْيَوِيَّةً كَانَتْ أَوْ أُخْرَوِيَّةً، وَمِنْهُ إِضَاعَةُ الْوَقْتِ الطَّوِيلِ فِي التَّطَرُّزِ وَالتَّطَرُّسِ وَالتَّوَرُّنِ كَمَا يَفْعَلُ النِّسَاءُ وَبَعْضُ الشُّبَّانِ، وَكَذَلِكَ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْمَذْمُومَةُ لَيْسَتْ لَوَازِمَ لِلزِّينَةِ، وَالطَّيِّبَاتُ تَحْصُلُ بِحُصُولِهَا وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا، وَلَيْسَ الْحِرْمَانُ مِنَ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ عِلَّةً سَبَبِيَّةً وَلَا غَائِيَّةً لِلْقِيَامِ بِمَعَالِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَلَا لِشُكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالرِّضَا عَنْهُ، وَلَا هُوَ أَعْوَنُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ يَقَعُ بِكُلٍّ مِنْ حُصُولِهِمَا وَالْحِرْمَانِ مِنْهُمَا، وَإِنَّ الْمَالِكَ لَهُمَا أَقْدَرُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَشُكْرِهِ وَتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ وَنَفْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْفَاقِدِ لَهُمَا. فَلَا وَجْهَ إِذًا لِتَحْرِيمِ الدِّينِ لَهُمَا، وَلَا لِجَعْلِهِ إِيَّاهُمَا عَائِقَيْنِ عَنِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِتَرْكِهِمَا، كَمَا جَرَى عَلَيْهِ وَثَنِيُّوا الْبَرَاهِمَةِ وَغَيْرِهِمْ وَسَرَتْ عَدْوَاهُ التَّقْلِيدِيَّةُ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ، وَسَرَتْ عَدْوَى هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَارُوا يَبُثُّونَ فِي الْأُمَّةِ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَرُوحَهُ وَسِرَّهُ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ. وَقَدْ كَذَّبَ اللهُ الْجَمِيعَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِأُمَّتِكَ: هِيَ- أَيِ الزِّينَةُ وَالطَّيِّبَاتُ مِنَ الرِّزْقِ- ثَابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَصَالَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ يُشَارِكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا بِالتَّبَعِ لَهُمْ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا مِثْلَهُمْ. وَهِيَ خَالِصَةٌ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- أَوْ حَالَ كَوْنِهَا خَالِصَةً لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَقَدْ قَرَأَ نَافِعٌ {خَالِصَةٌ} بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ- وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْرُ خَالِصَةٍ مِنَ الْمُنَغِّصَاتِ وَلَكِنَّهَا تَكُونُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَالِصَةً مِنْهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ دِينَ اللهِ الْحَقَّ يُورِثُ أَهْلَهُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2: 123، 124) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [72: 16] وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا.
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانُوا أَحَقَّ مِنَ الْكَافِرِينَ بِهَذِهِ النِّعَمِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْدَرُ بِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي تَرَقِّيهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ بِمَا حَثَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَمَا أَوْدَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِيمَا أَحْكَمَ مِنْ صُنْعِهَا، وَعَلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ بِتَسْخِيرِهَا لَهُمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِشُكْرِهِ عَلَيْهَا بِلِسَانِهِمْ وَجَوَارِحِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، فَالْمُؤْمِنُ يَزْدَادُ عِلْمًا وَإِيمَانًا بِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ كُلَّمَا عَرَفَ شَيْئًا مِنْ سُنَنِهِ وَآيَاتِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَيَزْدَادُ شُكْرًا لَهُ كُلَّمَا زَادَتْ نِعَمُهُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَثَمَرَاتِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ ذَكَّرَنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْنَا بِتَمْكِينِنَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا جَعَلَ لَنَا فِيهَا مِنَ الْمَعَايِشِ، وَبِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أُصُولِ الشُّكْرِ قَبُولَ النِّعْمَةِ وَاسْتِعْمَالَهَا فِيمَا وَهَبَهَا الْمُنْعِمُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ شُكْرُ الْجَوَارِحِ وَلَا يَكْمُلُ شُكْرُ الِاعْتِقَادِ بِأَنَّهَا مِنْ فَضْلِهِ وَشُكْرُ اللِّسَانِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ إِلَّا بِشُكْرِ الْأَعْضَاءِ الْعَمَلِيِّ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا مِنْ جَعْلِ التَّنْظِيرِ فِيهِ بَيْنَ الطَّاعِمِ الشَّاكِرِ وَالصَّائِمِ الصَّابِرِ دُونَ الْجَائِعِ الصَّابِرِ، أَنَّ الْجُوعَ أَمْرٌ سَلْبِيٌّ، وَلَكِنَّ الصِّيَامَ عَمَلٌ نَفْسِيٌّ يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ، فَهُوَ طَاعَةٌ كَالْأَكْلِ بِالنِّيَّةِ مَعَ الشُّكْرِ.
وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِدُونِ إِسْرَافٍ هُمَا قِوَامُ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ عَقْلِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ، وَلَهُمَا التَّأْثِيرُ الْعَظِيمُ فِي جَوْدَةِ النَّسْلِ الَّذِي تَكْثُرُ بِهِ الْأُمَّةُ، وَالْأَطِبَّاءُ يُحْظِرُونَ الزَّوَاجَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَرْضَى وَيُعِدُّونَ زَوَاجَهُمْ خَطَرًا عَلَى صِحَّتِهِمْ، وَجِنَايَةً عَلَى نَسْلِهِمْ وَعَلَى أُمَّتِهِمْ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِسُوءِ حَالِ نَسْلِهَا وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا إِلَّا بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ، يَقْصِدُ بِحُسْنِ تَغْذِيَةِ بَدَنِهِ بِالطَّيِّبَاتِ كُلَّ مَا يَعْقِلُهُ مِنْ فَوَائِدِهَا، وَيَتَجَنَّبُ مَا نَهَى الله عَنْهُ مِنَ الْإِسْرَافِ فِيهَا وَمِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَتَكْثُرُ حَسَنَاتُهُ فِيهِ، فَلَا غَرْوَ إِذْ عُدَّ فِي أَكْلِهِ كَالصَّائِمِ فِيمَا يَنَالُهُ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» أَيْ فِي الْمُلَامَسَةِ الزَّوْجِيَّةِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ كَثَوَابِ الصَّدَقَةِ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»- رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ- وَالْكَافِرُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ هَمٌّ فِي الْغَالِبِ إِلَّا التَّمَتُّعَ بِالشَّهْوَةِ غَيْرُ مُتَحَرٍّ لِلْحَلَالِ وَلَا لِحُسْنِ النِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ».